القرآن الكريم

لم يكن القرآن بلغة قريش فحسب … طيء و حضرموت والاشعريين – اليمن –

قبيلة طيء
تكون “طيء” مع “همدان” و”الأزد” و”مذحج” القبائل الأربعة الضخمة التي تنحدر من كهلان. وبنو كهلان هم الذين ورثوا رياسة البادية، وأعني إمارة أطراف اليمن وثغورها بعد حمير. وطيء لقب لجد جاهلي قديم يقال أن اسمه الحقيقي كان جلهمة. كان موطنهم الأصلي اليمن ثم انتقلوا ـ في وقت يصعب تحديده ـ إلى جبلي: “أجأ” و”سلمى” من بلاد نجد(1). وكانوا يعبدون في مسكنهم الجديد هذا صنمهم المدعو “الفلس”.
ويعد عدد كبير من فاتحي الأندلس من هذه القبيلة. وأما أصل هذه الكلمة اللغوي فالغالب على الظن أنها من الطاءة، التي بمعنى الإبعاد في المرعى. والنسبة إليها طائي.
شاركت هذه القبيلة في القرآن الكريم بخمس مفردات؛ أرعة منها في البقرة، وواحدة في هود؛ وتفصيلها كما يأتي:
1 ـ كلمة: “رغد” الموجودة في سورة البقرة الآية 35 التي يقول فيها عز وجل: “وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين”، ومعناها بلغة طيء خصب. “وقرأها النخعي بسكونها(2)”.
2 ـ المفردة “رجز” في سورة البقرة أيضا الآية: 59 “فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون” ومعناها بهذه اللغة التي نتحدث عنها، العذاب، ويرى عدد كبير من المفسرين أن هذا العذاب هو الطاعون الذي أنزله الله على “الذين ظلموا” من قوم موسى حين خالفوا أمر ربهم، والذي قتل منهم، في ساعة واحدة، ما يزيد على أربعة وعشرين ألفا.
ولا شك أن المصاب بالعذاب، أي عذاب كان،ـ مضطرب أشد الاضطراب، لا يهدئ له بال، ولا يستريح لع عقل. ومن هنا رأى كثير من المفسرين أن(3) “أصل الرجز الاضطراب، ومنه قيل رجز البعير رجزا فهو أرجز، وناقة رجزاء إذا تقارب خطوها واضطرب لضعف فيها”.
3 ـ اللفظة “سفه” في الآية 130 من سورة البقرة، التي يقول سبحانه فيها: “ومن يرغب عن
ملة إبراهيم إلا من نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين” ومعنى سفه هنا خسر. والذي خسر نفسه في عذاب أليم. واعتمادا على ما سبق أن قلنا في اللفظة الثانية من هذه الحلقة، يكون المعذب مضطربا أبدا. ولهذا قيل: “زمام سفيه” كثير الاضطراب، وهذه “خفة في البدن(4) طبعا، لكن مسببها هنا الهلع الشديد. وأصله، بصفة عامة، الخفة(5) والحركة(6)”.
4 ـ الكلمة: “نعق” من سورة البقرة الآية 171 “ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون”. ومعناها بلغة طيء يصيح، وقد تبدل العين منه غينـــا(7)، شأن عدد لا يحصى من المفردات السامية التي اختلطت حروفها على مدونيها ـ وسترد حين يتيسر إن شاء الله، بحثا مستقلا لذلك. قال الإمام شهاب الدين البغدادي(8): “نعق الغراب نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بالغين بمعناه(9).
5 ـ كلمة “ابنه” في قوله تعالى: “وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين” الآية 42 من سورة هود، ومعنى هذه الكلمة بلغة طيء، يقول أبو القاسم ابن سلام(10): “ونادي نوح ابنه أي ابن امرأته، بلغة طيء ويؤيده قراءة” ونادى نوح ابنها “وهي شاذة”. ومعلوم أن هذه القراءة الشاذة هي لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه(11). أما محمد بن علي وعروة بن الزبير فقد تخلصا من هذه القضية بشكل بارع حين قرأ ابنه بفتح الهاء(12).

لهجة قبائل حضرموت
1 ـ كلمة “ربيون” الكائنة في الآية 146 من سورة آل عمران والتي يقول فيها جل شأنه: “وكأي من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين” ويظهر أن هذه اللفظة سمعت أول ما سمعت بين سكان حضرموت، في وقت يصعب علي تحديده. ولذا عده العلامة الإمام أبو القاسم بن سلام(13) )من لهجة أهل حضرموت، إلا أنه اتضح الآن، وبشكل يكاد يكون قطعا، أن أصل هذه المفردة آرامية؛ وأصلها “ربة” بكسر الراء وتضعيف الباء، التي تعني جماعة كثيرة من الناس(14). وهي في هذه اللغــــة (rébouto) ولقد فطن لذلك قديما العلامة الراغب الأصفهاني فقال(15): “وقيل رباني لفظ في الأصل سرياني، وأخلق بذلك، فقلما يوجد في كلامهم” ومعلوم أن الربي كالرباني.
وقد قرئت هذه المفردة بالحركات الثلاث “الفتح على القياس والضم والكسر من تغييرات النســـب(16)” ومن بين الذين قرأوها بالضم أو الكسر علي، وابن عباس، والحسن، وابن مسعود(17).
2 ـ كلمة: “دمرنا” في الآية 16 من سورة الإسراء التي جاء فيها: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا متر فيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا” ولقد وردت هذه المادة ثمان مرات في القرآن الكريم. ثلاث مرات على صيغة دمرنا ) (18) وعلى صيغة دمرناها مرتين (19) وعلى صيغة تدمر مرة واحدة(20) وعلى صيغة تدمير مرتين (21) . ومعناها بلغة سكان حضرموت أهلكنا وورودها بكثرة في القرآن الكريم كما ترى دليل على كثرة استعمالها في اللغة العربية الفصيحة.
3 ـ “منساته” في سورة سبأ الآية 14 التي يقول فيها الحق سبحانه: “فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منساته فلما خر تبينت الجن إن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين”، ومعناها بهذه اللغة العصا. ولقد سبقت الإشارة إليها في الحلقة الحادية عشرة حين الحديث عن لهجة قبيلة خثعم. وبسطت القول هناك، سيما في قراءتها المختلفة، واستنتجت من هذه القراءات الكثيرة غرابة هذه اللفظة. فعد إلى ذلك وفقك الله.
4 ـ “احقاف” في الآية 21 من سورة الأحقاف التي جاء فيها: “واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم” ومعنى هذه اللفظة عند سكان حضرموت الرمل. ويضيف صاحب الكشــــاف فيقـــــول(22) : “وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقب الشيء إذا أعوج، وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال، مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن، وقيل بين عمان وهرة”، وجدير بالذكر أن أشير إلى أن هذه المفردة في هذه الآية هي التي أعطت اسم السورة، وأنها الوحيدة الواردة في القرآن الكريم.
5 ـ كلمة “لغوب” في الآية 38 من سورة (ق) التي جاء فيها: “ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب” ومعناها بلهجة سكان حضرموت إعياء. ومن القراء من يقرأها بالفتح. ولم ترد إلا مرتين في القرآن. الأولى في سورة فاطر الآية 25، والثانية في مكاننا هذا الذي نتحدث عنه.

لهجة قبائل الأشعريين (23):
تنتسب قبيلة الأشعريين إلى كهلان. وكانوا في جاهليتهم يعبدون مع قبائل عك والسلف الصنم الذي كانوا يطلقون عليه “المنطيق” ولقد وجد المسلمون في جوفه حين كسروه سيفا اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وأطلق عليه اسم المخذم.
ويرى بعض النسابين أن قبائل الأشعر هي: “الجماهر (24) جده، (25) والأنعم، والأرغم، ووائل وكاهل، وعبد شمس، وعبد الثريا. شاركت هذه القبيلة في القرآن الكريم بأربعة ألفاظ وزرعت في القرآن الكريم حسب البيان الآتي:
1 ـ كلمة: “احتنك” في الآية 62 من سورة الإسراء التي جاء فيها: “قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا”، ومعناها بلغة الأشعريين لستأصل ولعلها من احتنك الجراد الأرض أو احنك الشاتين. يجعل الراغب الأصفهاني أصلها من الحنك (حنك الإنسان والدابة (26) )..
2 ـ لفظة: “تارة” في الآية 69 من سورة الإسراء التي جاء فيها: “أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا”، ومعناها بهذه اللغة مرة.
ولقد وردت في القرآن الكريم مرة أخرى في الآية 55 من سورة طه: “منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى”، ولقد اشتهرت في اللغة العربية الفصيحة الاشتهار الذي تعرف، واستعملت هذا الاستعمال الواسع الذي تلاحظ.
3 ـ المفردة: “اشماز” الموجودة في الآية 54 من سورة الزمر التي يقول فيها سبحانه وتعالى: “وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يومنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون”، ومعناها بلغة الأشعريين مالت ونفرت. وهذا الفعل “اشمأزت” في الآية يقابل الفعل يستبشرون. فقلوب الكفار نشمأز كلما ذكر الله وحده ولكنها تستبشر عند ذلك آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وهذه هي المقابلة التي بسط القول فيها الزمخشري حين قال(23):
“ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منها غاية في بابه لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه”.
4 ـ كلمة: “ثجاجا” في الآية 14 من سورة النبأ، وفيها يقول عز من قائل: “وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا”، ومعناها بلغة الأشعريين رشاشا.
لم ترد هذه المفردة في القرآن الكريم إلا مرة واحدة، ولم تستعمل بكثرة في اللغة العربية الفصيحة، مما يدل على غرابتها، وإن كانت وردت في حديث شريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم “أفضل الحج الحج والثج” ومن القراء من يقرأها بحاحا.
ـ كمال المروءة ـ
من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته.

 

[divider style=”dotted” top=”20″ bottom=”20″]
(1) الأعلام ج 3 صفحة 337.
(2) الألوسي. روح المعاني الجزء الأول صفحة 234.
(3) المفردات في غريب القرآن صفحة 187.
(4) الراغب الأصفهاني صفحة 234.
(5) الكشاف الجزء الأول صفحة 95.
(6) الصحاح الجزء السادس صفحة 2234.
(7) ابن السليت القلب والإبدال صفحة 32.
(8) تفسير روح المعاني الجزء الأول صفحة 41.
(9) ولقد خصص المرحوم J Cantineau في كتابه القيم « cours de philologie arabe » فقرات مهمة لابدال العين بالغين صفحة 94.
ـ كما أن المقال المهم الذي نشره المستشرق R Rusicka في “الوثائق الشرقية عدد 1954 صفحة 176 إلى 237 تحت عنوان :
La question de l’existence du gh dans les langues sémitiques en général et dans la langue ougaritienne en particulier.
يعد بحق مرجعا مهما في هذا الباب لكل من أراد أن يكون فكرة صحيحة عن هذه القضية، سواء من اللغويين أو المقرئين أو مؤرخي اللغة.
(10) ذيل تفسير القرآن العظيم )الجللين( الجزء الأول صفحة 194.
(11) Materiels for the history of the text of the Quran صفحة 187.
(12) الكشاف الجزء الثاني صفحة 217.
(13) حاشية تفسير القرآن الكريم للإمامين جلال الدين محمد بن أحمد المحلي، وجلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي، الجزء الأول صفحة 66.
(14) الأب رفائيل اليسوعي: غرائب اللغة العربية صفحة 182.
(15) المفردات في غريب القرآن، صفحة 184.
(16) الكشاف، الجزء الأول صفحة 221.
(17) Jeffery صفحة 35.
(18) في الأعراف الآية 137، وفي الشعراء الآية 172 وفي الصافات الآية 136.
(19) في الفرقان الآية 36، وفي النحل 51.
(20) في الأحقاف الآية 25.
(21) في الإسراء 16 والفرقان 36.
(22) الجزء الرابع صفحة 448.
(23) الكشاف، الجزء الثالث، صفحة 349.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لا نستخدم اعلانات مزعجة ، لطفاً يرجى تعطيل مانع الاعلانات ظهور الاعلانات يساعد موقعنا على الاستمرار وتغطية التكاليف