لم يكن القرآن بلغة قريش فحسب … قبيلة النبط

يقول منجد الطلاب، في التعريف بهذه القبيلة “قوم من العرب قطنوا قديما جنوبي فلسطين. كانت قاعدتهم صلع وبصرى وصلحد والحجر، وهي حصونهم ومستودع اموالهم وأسلحتهم كانوا من البحار يدخولن إلى مصر والشام وبلاد الفرات وروما كان بينهم شعراء وأطباء. عبدوا الأصنام منها اللات. خرجت من سلالتهم قبائل الحويطات المقيمة في حسمة شمالي الحجاز” (1)
ولقد شاركت هذه القبيلة بألفاظها في الذكر الحكيم ب 11 لفظة عدا ما لم انتبه إليه ولقد وزعت هذه الألفاظ في كتاب الله العزيز على الشكل الآتي:
1- لفظة: “اصري” الموجودة في سورة ال عمران الآية 81 ومعناها بهذه اللغة عهدي. والعهد الذي يصر به الحر الأبي، المومن لابد أن يحترمه ولذا فهو رباط معنوي يشده شدا وثيقا إلى التزاماته لا يستطيع الخلاص منه، بل لا يملك الا احترامه – لهذا قيل: أصري من أصره يأصره: حبسه: والحبس، رباط واي رباط؟
والصلة التي تجمع القريب بقربه. وصاحب معروف بالضعفاء ، والفقراء، والمحتاجين : آصرة، قال، الأصعي:
“الأصرة ما عطفك على رجل من رحم أو قرابة أو صهر أو معروف، والجمع الأواصر”.
يظهر لنا من خلال هذا أن اللفظة النبطية “أصري” انتشرت انتشارا واسعا في اللغة العربية الفصيحة.
واتسع معناها في وقت مبكر جدا، لا يمكنني تحديده بالضبط.
ولقد قرئت ” أصري” في هذه الآية بالضم وهي القراءة التي يوولها الزمخشري بقوله: (2) “ويجوز أن يكون المضموم لغة في أصر كبير وعبر وأن يكون جمع أصار”
ولقد وردت هذه اللفظة في مكانين آخرين من القرءان الكريم في سورة البقرة في الآية 286 التي جاء فيها: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها مكسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تواخذنا أن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا…” الآية ومن القراء من يقرأ لفظة أصرا الموجودة في هذه الآية آصارا ومن بينهم أبي بن كعب(3) ويفسر ويفسر جار الله هذه اللفظة بقوله(4): “العبء الذي يآصر حامله أي يحسبه مكانه لا يستقل به لثقله”.
كما وردت مرة أخرى في سورة الأعراف الآية 157 التي يقول فيها سبحانه وتعالى: “الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم …” الآية.
ولها هنا أيضا المعنى الذي بيناه أنفا ولقد قرئت آصارهم على الجمع.
2- كلمة “كفل” الموجودة في الآية 85 من سورة النساء التي جاء فيها: “من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفه شفاعة سيئة يكن له كفل منها، وكان الله على كل شيء مقيتا …” ومعناها بهذه اللغة النصيب وقد وردت عدة مرات في القرآن الكريم.
3- مفردة: “أواه” الكائنة في سورة هود الآية 75 والتي جاء فيها : “إن إبراهيم لحليم أواه منيب” كما جاءت في سورة التوبة الآية 114 حيث قال سبحانه: “وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم” وجدير بالذكر أن نلاحظ أن هذه المفردة لم تستعمل في كتاب الله الا مع إبراهيم الخليل، صلوات الله وسلامه عليه، ودائما بمناسبة طلب المغفرة من الله لأبيه، ومقرونة في كلتا الايتين بلفظة حليم، ومعناها في اللغة النبطية “الذي يكثر من الدعاء” وكان إبراهيم الخليل “لفرط ترحمه ورقته، وحلمه، يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له، مع شكاسته له، وقوله “لارجمنك”(5)
4- كلمة: “هيت لك” في سورة يوسف الآية 23 التي يقول فيها الحق سبحانه: “وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك. قال معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون، ومعناها باللغة النبطية تهيأت لك.
يجعل الزمخشري أصلها هاء يهيء(6) أما الجوهري فيدمجها تحت مادة هيت ويحتج لذلك بيتين من الشعر قيلا في علي بن أبي طالب:(7):
ابلغ امير المومن
ــين اخا العراق إذا اتيتا
إن العراق وأهله
سلم اليك فهيت هيتا
ولابد من إيداء كلمة حول أوجه قراءات هذه الكلمة
يقول الزمخشري(8): “قرئ هيت بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء” وهو كلام مجمل جدا لابد من تفصيل الكلام فيه، والتعليق عليه أن اقتضى الحال.
أما قراءة هيت لك بالفتح، فهو الذي بمعنى تهيآت لك، أو هلم لك: وهو الذي يعنينا هنا، وهي القراءة الصحيحة في نظري المتواضع ولا أدري لماذا لم يقع عليها الإجماع
أما قراءة هيت بالكسر، فهو اسم بلد على الفرات وأنا رغم هذا، لا أستبعد أن يكون هذا الوجه صحيحا وإن كسرتها عارضة، اتوا بها لمجانسة الياء الساكنة بعدها. وهي قراءة مستحسنة، مطابقة للنطق العربي الذي يسعى دائما للجناس اللفظي، ويفر من كل نطق وحشو غريب حتى ولو أدى به الأمر إلى مخالفة القاعدة اللغوية أو النحوية.
وتدل في هذه الحال على ما تدل عليه “هيت لك” بالفتح، وإن وافقت في النطق اسم بلد الفرات وجدير أن نشير إلى أن هذه القراءة الأخيرة، هي القراءة السائدة عندنا في المغرب.
ولم ينفرد الزمخشري وحده بالاشارة إلى هذه القراءات، بل ذكرها جل المفسرين، ومن بينهم الأمامان محمد بن أحمد المحلي وعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في تفسيرهما حيث قالا(9): “وفي قراءة بكسر الهاء(10) وأخرى بضم التاء”
ونحن نعرف أن هناك قراءات أخرى لم يشر إليها لا الزمخشري ولا صاحبا الجلالين وهذه القراءات هي:
“ها أنا لك” عوض هيت لك وهي قراءة أبي بن كعب(11) ويعلق عليها Jeffry فيقول:
So read gy Eli and Mu adh al Qari
أما ابن مسعود فيقرأ ها بفتح الهاء كما يقرأها هيئت بضم الهاء وكسر الياء بعدها همزة ساكنة، وتاء مضمومة(12) ويقرأ علي رضي الله عنه “هيت لك” ها أنا لك، كما يقرأها بكسر الهاء وضم التاء (13).
أما ابن عباس فيقرأها هيئت بضم الهاء بعدها ياء مكسورة مشددة وهمزة ساكنة وتاء مضمومة ويقرأها بهاء مفتوحة بعدها ياء ساكنة وتاء مكسورة. وأخيرا يقرأها بهاء مفتوحة بعدها ياء مشدودة مكسورة طويلة بعدها تاء مفتوحة(14).
وأن دلت هذه القراءات المختلفة على شيء فإنما تدل على أن هذه المفردة دخيلة على لغة فريش، غير مألوفة لديها والا لكان وجه قراءتها واحد لا تعدد فيه.
5- كلمة: “وراءهم” الكائنة في سورة الكهف الآية 79 التي جاء فيها: “أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فاردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا” وتوجد هذه الكلمة بهذا المعنى أيضا في سورة الإنسان الآية 37 وفي سورة إبراهيم الايتين 16 و 17 ومعنى هذه اللفظة باللغة النبطية الإمام وبما أن عادتها أن تدل على الخلف، قالوا فيها أنها من كلمات الأضداد، أما حكمها في قواعد اللغة، فحكم بعد، وقبل قال الأخفش: “يقال لقيته من وراء فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف، تجعله اسما وهو غير متمكن كقولك من قبل ومن بعد”
6- لفظة ” “سيناء” الموجودة في سورة المومنون الآية 20 التي يقول الحق سبحانه فيها: “وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للاكلين”
ومعلوم أن كلمة سيناء اسم لجبل اختلف المفسرون في موقعه، فمنهم من يقول أنه جبل بفلسطين ومنهم من يقول أنه بين مصر وأيلة، وأيلة هذه ميناء صغير على رأس خليج العقبة(15) ويعرف عند الارميين بـ:Ayluno (ايلون) ويعرفه العبريون بـAylat (ابلات)
ولم نتبث نحن هذه الكلمة ضمن الألفاظ النبطية الموجودة في القرءان الا لأن أحد القراء الأفاضل وهو الثقة العدل الأعمش يقرأها سينا(16) وسينا معناها الحسن باللغة النبطية. وعذرنا في هذا الاستطراد الذي قد يستثقله بعض القراء، إنه مقدمة لابد منها للوصول إلى النتيجة النهائية التي توخيناها
وفي هذه اللفظة قراءاتان اثنتان غير قراءة الأعمش وهي سيناء بكسر السين، وفتحها
7- مفردة “عبدت ” الاية 22 من سورة الشعراء التي يقول الله فيها : “وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل”، ومعناها في هذه الاية قتلت باللغة النبطية.
8- كلمة : ” ولات” في الآية 3 من سورة ص “كم اهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص” لم أثبت هذه المفردة هنا على اعتقاد أنها نبطية، وإنما لارد على من يجعلها في زمرة هذه اللغة، والحق يقال أن أغلبية المفسرين الذين يهتمون بلغات القرءان أن لم أقل كلهم ادمجوها ضمن هذه اللغة، وهو وهم خاطئ، إذ المفردة المذكورة ارامية لا جدال فيها وهي التي بمعنى لا يكون ونستعرض لها بالشرح حين الحديث عن الألفاظ الارامية في القرآن الكريم.
9- كلمة : ” مقاليد ” في الاية 60 من سورة الزمر، وفي الآية 12 من سورة الشورى أن كثيرا من المفسدين يرون أن هذه المفردة توافق لغة الانباط ولقد سبق أن أشرت إليها، واطلبت الحديث فيها، حين الكلام عن لغة حمير وبينت آنذاك أصلها الحقيقي وسأعود إليها إن شاء الله بمناسبة ذكر الألفاظ الاغريقية في القراءان الكريم.
10- لفظة: “اليم” الاية 40 من سورة الذاريات: “فاخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم” يجعل المهتمون بلغات القرآن من المفسرين هذه اللفظة ضمن اللغة النبطية، وليس ذلك بصحيح إذ المفردة آامية وهي تدل على البحر عندهم، وسنتعرض لها إن شاء الله حين الحديث عن اللغة الارامية في القراءان.
11- كلمة: “وزر” الموجودة في الاية 11 من سورة القيامة التي يقول فيها سبحانه: “كلا لا وزر” ومعناها باللغة النبطية لا حيلة ولا ملجأ”
أول عجز القوم…
إدا ما راد الله ذل قـبـيلـــــــة رماها بتشتيت الهوى والتخادل
وأول عجز القوم عما ينوبهم تقاعدهم عنه، وطول التواكــل
وأول خبث الماء هبث ترابـه وأول لوم القوم لوءم الحلائـل
عبيد بن ايوب العنبري
[divider style=”dotted” top=”20″ bottom=”20″]
(1) أغفل العلاقة خير الدين الزركلي الإشارة إلى هذا العلم في كتابه الإعلام، وكان من حقه أن يثبته في الجزء الثامن من مؤلفه أو في الجزء العاشر الذي حوى المستدرك، ولقد بعث في الطبعة التي بين يدي عن هذا الطبعة في الجزئين المذكورين فلم أعثر عليهما، ولعل بعض الفضلاء من الذين عثروا عليه في هذه الطبعة أو في الطبعات الأخرى أن يرشدوني إليه مشكورين.
(2) الكشاف الجزء الأول صفحة 199.
(3) صفحة 123. Materials for the hisyory of the text of the Qur’an
(4) الكشاف صفحة 172 الجزء الأول.
(5) الكشاف صفحة 175 الجزء الثاني.
(6) الكشاف صفحة 248 الجزء الثاني.
(7) الصحاح الجزء الأول صفحة 271.
(8) الكشاف نفسه الصفحة أعلاه.
(9) تفسير القرءان العظيم الجزء الأول صفحة 203 طبعة القاهرة غير مؤرخة
(10) وقد أشار إلى الفتح حين شكلا النص القرآني.
(11) Arthur Jeffry –Matereials السابق الذكر صفحة 138.
(12) نفس المصدر أعلاه صفحة 48
(13) نفس المصدر أعلاه صفحة187
(14) نفس المصدر أعلاه صفحة 200
(15) القاموس الاسلامي تأليف أحمد عطية الله المجلد الأول طبعة القاهرة صفحة 228.
(16) الكشاف الجزء الثالث صفحة 45.