لم يكن القرآن بلغة قريش فحسب … قبيلة بنو تميم

قبيلة بنو تميم(1)
غير خاف ما لتأثير لهجة هذه القبيلة على اللهجات العربية الأخرى، كما لا يخفى على أحد ـ بعد كل ما يقرأ في المصادر القديمة ومعاجم اللغة ـ من أن لغة تميم أسلم لهجة عربية على الإطلاق بل هي في كثير من الأحيان أقوى قياسا من بعض القواعد القرشية، بل فيها ما يكاد الباحث يستنتج منه باطمئنان أن لهجة تميم كانت في كثير من مفرداتها وتراكيبها هي التي ينطق بها غالبا أبناء اللغة العربية(2).
أما ابن منظور فيرى، مع إمام النحاة سيبويه، أن التميميين يراعون القياس في كسر أوائل الأفعال المضارعة ويقول(3): «وزعم سيبويه أنهم يقولون تقي الله رجل فعل خيرا، يريدون اتقى الله رجل، فيحذفون ويخفقون. وتقول أنت تتقي الله، وتتقي الله (بفتح تاء الفعل الأول وكسرها في الثاني(4)) على لغة من قال تعلم وتعلم (بفتح الفعل الأول وكسرها في الثاني(5)) وتعلم بالكسر لغة قيس، وتميم، وأسد، وربيعة، وعامة العرب.
وأما أهل الحجاز وقوم من أعجاز هوزان وأزد السراة وبعض هذيل فيقولون: تعلم (بالفتح(6)) والقرءان عليها قال: «وزعم الاخفش أن كل من ورد علينا من الأعراب لم يقل الا تعلم (بالكســــــــر(7) قال: نقلته من نوادر أبي زيد».
ولقد ذهب إلى هذا الرأي وركن إليه العالم اللغوي الشهير أبو الفتح عثمان ابن جني حين قـــــــال(8): «من ذلك أن التميمة في (ما) هي أقوى قياسا من حيث كانت عندهم كـ «هل» في دخولها على الكلام مباشرة كل واحد من صدري الجملتين: الفعل والمبتدأ، كما أن «هل» كذلك إلا أنك إذا استعملت أنت شيئا من ذلك فالوجه أن تحمله على ما كثر استعماله، وهو اللغة الحجازية، ألا ترى أن القرءان بها نزل وأيضا فمتى رأيك في الحجازية ريب من تقديم خير، أو نقض النفي فزعت إذ ذاك إلى التميمية، فكأنك من الحجازية على حذر، وإن كثرت في النظم والنثر».
وجميل هنا أن نذكر بالحكاية التي أوردها أبو علي اسماعيل بن القاسم القالي في أماليه والتي يروي فيها أن ليس في الارض حجازي إلا وهو ينصب (ويقصد خبر ليس) ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع(9)، وهذا يبين لنا بوضوح «أن لكل قبيلة عربية لحنا خاصا بها لا تستطيع سواه ويستحيل تلقينها غيره لأن ألسنتها لا تجري إلا به»(10).
وبما أن تميم قبيلة عريقة في البداوة فإنها تميل دائما إلى الصوت الأشد فتفضل النطق بالضاد على الظاء، مع أنه أخف ولها تقول فاضت نفسه بالضاد المهملة. كما تميل هذه القبيلة إلى الطاء عوض التاء فتقول مثلا أفلطني الرجل أفلاطا، بدل أفلتني افلانا، وهم يفضلون الصاد على السين، والقاف على الكاف وسبب كل هذا الخشونة التي تتصف بها هذه القبيلة. ومن الخشونة تفضيلها للضم، وهو قظ غليظ. بينما يحرص الحجازيون على الكسر للطافته. وهكذا تقول تميم: رضوان ومرية واسوة وقدوة وقنوة بالضم بينما هي مكسورة الأول في اللهجة الحجازية(11).
أما الألفاظ التميمية الموجودة في القرءان الكريم فقد أحصيت منها 12 لفظة بيانها كما يلي:
1 ـ لفظة «بغيا» الموجودة في سورة البقرة الآية 90 التي يقول فيها الحق سبحانه: «بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين» ومعناها بهذه بهذه اللغة الحد.
2 ـ لفظة «تدخرون» المثقلة الموجودة في الآية 49 من سورة آل عمران ولقد سبق أن ذكرت أن هذه المفردة كنانية حين تقرأ بالتخفيف، وبينت وجهة نظري في الموضوع(12) ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن تدخرون بالتضعيف أسلم وأقيس من تدخرون بالتخفيف ومن هذا يمكن أن نستنتج تفوق لهجة تميم على لهجة كنانة، على الأقل، في باب مراعاة القواعد السليمة المطردة للغة العربية.
3 ـ مفرد «قرح» الكائنة في الآية 140 من سورة آل عمران وقد كررها مرتين في هذه الآية: «إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين» كما وردت مرة أخرى في نفس السورة الآية 172 التي يقول فيها جل جلاله: «الذين استجابوا لله وللرسول من بعدما أصابهم القرح الذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم».
وفي لفظة القرح لغتان: فالتميميون يضمون القاف بينما يفتحها الحجازيون، وقد قريء بالوجهين معا.
ومن اللغويين من أعطى لشكلها تأويلا اخسر فقال: الفرح بالفتح الجراح، والضم المها وهو تأويل يلجأ إليه من لا يحب أن يسمع بتعدد اللهجات في اللغة العربية. ومن القراء من قرأها بفتحتين كأبي السمال.
4 ـ لفظة «ثمر» الكائنة في سورة الأنعام الآية 99 التي جاء فيها «وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكما ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه، إن في ذلكم لآيات لقوم يومنون» وقد كرر الحق سبحانه وتعالى هذه المفردة بهذه الصيغة في نفس هذه السورة الآية 141.
وفي هذه اللفظة كما في اللفظة السابقة لغتان. وغني عن البيان، الآن، بعد كل ما شرحناه أعلاه، ان الضم لغة تميم والفتح لغة كنانة. ومن القراء من قرأها بالضم.
5 ـ لفظة «يبشرهم» في قوله تعالى «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم» وكالعادة في هذه اللهجة التي يتميز الناطقون بها بالخشونة والغلظة لبداوتهم أقول، وكالعادة، فإن النطق الصعب، وهو تضعيف الشين، لتميم، بينما كنانة، التي تميل إلى الرقة والخفة، لا تنطق بها إلا بالتخفيف. وتقرأ بهذين الوجهين في كتاب الله الكريم.
6 ـ كلمة «أمة» وقد سبق أن تعرضت لها حين الحديث عن لهجة قيس عيلان، وفصلت القول فيها وتوجد في الآية 45 من سورة يوسف.
7 ـ لفظة «سرابيل» الموجودة في الآية 81 من سورة النحل، وهي الآية التي يقول فيها سبحانه وتعالى: «والله جعل لكم مما خلق ظلالا، وجعل لكم من الجبال أكنانا، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم، كذلك يتم نعتمه عليكم لعلكم تسلمون» ومعناها بهذه اللغة القمص.
ولابد أن أبدي هنا ملاحظة أظنها مهمة. ذلك أن المفسرين الذين اهتموا بلغات القرءان يذكرون كلهم أن لفظة سرابيل لفظة تميمية ولهذا أثبتها في عداد هذه القبيلة. ولعل هذه المفردة ظهرت في الجزيرة العربية، أول ما ظهرت، في فم أفراد قبيلة تميم، فظنها الناس تميمة أصالة، أما الان، فقد ثبتت الحجة القاطعة، التي لا تقبل أدنى شك، على أن هذه اللفظة فارسية للسبب البسيط، وهو شكل تركيبها الذي لا يمكن أن يكون تميما، بل فارسيا لا محالة ولاشك أن سرابيل هو الجمع العربي للمفردة الفارسية سربال فهي تتركب من سر (فوق) وبال (قامة) وهو القميص.
ويرى صاحب الصحاح أن السراويل غير السرابيل وهو على صواب، أما هذه الأخيرة فهي كما شرحت أعلاه وقد جعلها كلمة عربية واشتق منها صيغا وأدمجها تحت مادة سربل. وأما لفظة سراويل فيرى أنها مفردة وان جمعها سراويلات، واعتمد في هذا الادعاء على كلام لم يقله سيبويه(13) والمفردة سراويل فارسية أيضا، ولا حاجة إلى بسط الكلام فيها، مادامت خارجة عن المفردات التي تهمنا الآن.
8 ـ لفظة «الصدفين» الموجودة في الآية 91 من سورة الكهف والتي يقول فيها سبحانه وتعالى «اتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا. حتى إذا جعله نارا قال اتوني أفرغ عليه قطرا» ومعناها بهذه اللغة الجبلين وفيها قراءات شتى قال الزمخشري(14): «وقريء الصدفين بضمتين والصدفين بضمة وسكون والصدفين بضمة وفتحة» وتفصيل هذه القراءات كما يلي:
من القراء الذين يقرأونها بضمتين وبفتحتين: أبي بن كعب(15).
أما القراء الذين يقرأونها بفتحتين أو بتعويضها بكلمة جبلين فهم: ابن مسعود(16) وعلي بن أبي طالب(17) وابن عباس(18).
ومن المفسرين من يجعل هذه الكلمة مشتقة من فعل صدف عني أي أعرض، وقد اتفقوا في ذلك مع ما ذهب إليه كثير من اللغويين وعلى رأسهم ابن منظور والجوهري، وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه اللفظة كررت في القرءان الكريم أربع مرات كلها في سورة الأنعام، ثلاث مرات في الآية 157 «فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها. سنجزي الذين يصدفون عن ءاياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون» وفي الآية 46 من نفس السورة: «انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون».
ولاشك أن هذه اللفظة من الألفاظ الغريبة التي تستعصي معرفتها على عامة الناس ولهذا حاول نافع بن الأزرق، وصاحبه نجدة بن عويمر، أن يمنحنا بها عبد الله بن عباس الذي اعتاد أن يجلس بفناء الكعبة، يفسر القرءان فطلب منه نافع قائلا(19) له أخبرني عن قوله تعالى (يصدفون) قال: «يعرضون عن الحق».
قال: «وهل تعرف العرب ذلك؟ «قال نعم! أما سمعت قول أبي سفيان!».
عجبت لحكم الله فينا وقد بدا
له صدفنا عن كل حق منزل
9 ـ كلمة «متنا» الآية 16 من سورة الصافات يخبرنا المحققون أن تميما تنطقها بضم فاء الفعل، وأن أهل الحجاز يكسرونها.
وإذا كنا قبلنا هذا الضم الثقيل ـ ولم نقبله بسهولة ـ ونسبناه إلى تميم في مثل قرح ونمر وأمة من الكلمات التي سبق أن تعرضنا لها، وسنقبله في لفظة سخريا التي لم نتكلم عنها بعد، فلأننا لم نر حتى الآن، وجها وجيها يمكن أن نقدمه للناس، غير الوجه الذي اعتمدناه. والله يشهد كم بذلنا من من جهد للبحث عن هذا الوجه دون طائل، ذلك أن الميدان الذي ولجناه، دون وعي منا، لازال بكرا إلا من إشارات خفيفة، منتثرة هنا وهناك، تنتظر الفكر الخلاق، والقلم الرصين.
أما في هذه اللفظة، فضم الحرف الأول من الكلمة له وجه مدروس عند النحاة، ذلك أن الكلمة التي نتحدث عنها فعل، وليس باسم كسابقاتها، وحركات حروف الفعل في اللغة العربية تخضع لناموس مضبوط، محكم، لا يمكن الخروج عنه بوجه من الوجوه وهذا الفعل الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو فعل «مات» الذي اتفق النحاة على القول بانه على وزن فعل المفتوح اليعن وبما أن هذا العين واو فإن الفعل يخضع في هذه الحال، إلى ما أوضحه بشكل يبهرنا العالم النحوي الشهير ابن مالك في لامية أفعاله، إذ يقول:
وأنقل لفا الثلاثي شكل عين
إذا اعتلت وكان بتا الإضمار متصلا
أو نونه وإذا فتحا يكون فمنه
اعتض مجانس تلك العين منتقلا
فالفعل الذي يهمنا الآن مسند إلى ضمير الرفع، وهو نون الجماعة، ثم إنه مفتوح العين فكان لزاما إذن، تطبيقا لقاعدة ابن مالك أن نعوض الواو الأصلي المحذوف لالتقاء الساكنين بحركة تجانسه وهي الضمة، نضعها على فاء الفعل، فيصير متنا، مضموم الفاء، وهو النطق التميمي. لكن الوجه الآخر الذي ينطق به الحجازيون. له تأويل آخر، لاشك أن النحاة تعرضوا له انهم حين ينطقون بـ «متنا» بكسر فاء الفعل، يكونون عوضوا بهذه الكسرة ياء الأصل، ومن هنا يمكن أن نقول أنهم يرون أن أصل الفعل ميت لا موت.
10 ـ مفردة «سخريا» الآية 63 من سورة الصافات والملاحظ هنا أيضا، كما في اللفظة السابقة، إن الضم لغة تميم، والكسر لغة قريش، وهي ملاحظة وقفت عندها طويلا في هذه الحلقة، فلا داعي إلى إعادتها، وقد كرر الحق سبحانه هذه المفردة مرتين في القرءان، مرة في سورة المؤمنين الآية 110، ومرة في الزخرف الآية 32.
11 ـ لفظة «خاشعة» في الآية 39 من سورة فصلت ومعناها بلغة تميم مقشعرة.
12 ـ كلمة «آسن» في الآية 15 من سروة محمد، ومعناها بهذه اللغة منتن.
[divider style=”dotted” top=”20″ bottom=”20″]
(1) قال ابن حزم عن تميم: «هم قاعدة من أكبر قواعد العرب» ويقول أكبر المؤرخين أن منازلهم كانت بأرض نجد والبصرة واليمامة قال اليعقوبي: كانت تلبيتهم في الجاهلية إذا حجوا: «لبيك اللهم لبيك، لبيك عن تميم قد تراها، قد أخلفت أثوابها وأثواب من وراها، وأخلصت لربها دعاها»,. ومن المآخذ التي أخذت عليها أن كثر فيها واد البنات في وقت قل في سائر قبائل العرب (أنظر بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب) الجزء الثالث ـ الطبعة الثالثة بالقاهرة ـ صفحة 42) وصفها دغفل بأنها «حجر أخشن ان صادفته إذاك وإن تركته أعفاك» (نفس المصدر صفحة 201) ولقد وصفها الشاعر الطرماح وصفا ذميما حين قال:
تميم بطرق اللوم أهدى من القطا ولو سلكت سبل المكارم ضلت
أنظر أيضا لمعرفة هذه القبيلة دائرة المعارف الإسلامية، الجزء الخامس من صفحة 473 إلى 478 ومهرة الأنساب ابتداء من صفحة 196، ومعجم قبائل العرب، الجزء الأول ابتداء من صفحة 126 أنظر الاعلام أيضا صفحة 71 من الجزء الثاني.
(2) «دراسات في فقه اللغة» للدكتور صبحي الصالح طبعة جامعة دمشق 1960 صفحة 65.
(3) «لسان العرب» الجزء 20، صفحة 283، طبعة بولاق.
(4) الزيادة من كاتب السطور.
(5) الزيادة من كاتب السطور.
(6) الزيادة من كاتب السطور.
(7) الزيادة من كاتب السطور.
(8) «الخصائص» الجزء الأول طبعة القاهرة 1952 صفحة 125.
(9) انظر صورة من هذه الحكاية في «المزهر» صفحة 277 من الجزء الثاني.
(10) دراسات في فقه اللغة صفحة 70.
(11) انظر أكثر الفروق الأخرى في «المزهر» الطبعة الثالثة صفحة 276 و277.
(12) أنظر دعوة الحق ـ العدد الخامس ـ السنة التاسعة ـ صفحة 26 و27.
(13) أنظر الصحاح صفحة 229، الجزء الخامس وانظر أيضا التعليق الموجود في طرة هذه الصفحة.
(14) «الكشاف» صفحة 402 من الجزء الثاني.
(15) Materials for the history of the txt of the Qur’an صفحة 144.
(16) نفس المصدر أعلاه صفحة 57.
(17) نفس المصدر أعلاه صفحة 188.
(18) نفس المصدر أعلاه صفحة 201.
(19) «الإتقان في علوم القرءان» طبعة القاهرة الجزء الأول صفحة 127.